خلافاً لما يظن المراقب عن بعد ثمت منظمات مجتمع مدني في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية تنشط منذ أوائل القرن الماضي لكن أداءها وطبيعتها وشكل علاقتها بالحكومة تغيرت مع الزمن وتتغير من منطقة الى أخرى ويرد الكاتب البطء في عملية تشكل مجموعات المجتمع المدني الى أسباب منها الحماسة لتحقيق الربح على الطريقة الرأسمالية وما يبعد الفرد عن السياسة وهمومها ودور الاعلام في بث اللامباgxلاة بين صفوف الشباب والشابات بالإضافة الى التشويش الذي تمخضت عنه موجة الحركات الإسلامية.
للوهلة الأولى يبدو انه لا يوجد في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست مجتمع مدني يمكن الحديث عنه ولكن بإمعان النظر تتكشف طبقة معقدة من المنظمات جنباً الى جنب مع الحكومات وفي بعض الحالات ترى مندمجة في الهياكل الحكومية الرسمية وفي الواقع فأنه نظراً الى حداثة عهد هذه الدول فأن الكثيرين ممن كانوا ناشطين ضد الوجود البريطاني في الخليج قبل الاستقلال أصبحوا مسؤولين رسميين يعملون في الأوساط الحكومية حتى اليوم.
غنيٌ عن القول ان الدولتين الخليجيتين صاحبتي التأريخ الأطول في مجال حركات المجتمع المدني هما الكويت والبحرين اذ بدأت حركات المجتمع المدني فيهما عامي 1919 و1921 على التوالي وفقاً للدكتورة منيرة فخرو.
لكن هذا لا يلغي حقيقة انه انطلقت في بعض البلدان حركة مجتمع مدني نشطة في أجزاء بعينها قبل غيرها تبعاً لمستوى التعليم كما هو الحال في الحجاز في المملكة العربية السعودية ومناطق في الامارات العربية المتحدة.
في الكويت تعتبر ظاهرة الديوانيات نموذجاً فريداً للمجتمع المدني وتختلف الديوانية الكويتية عن مثيلاتها في بقية دول الخليج لكونها اكتسبت طابقاً مؤسسياً اذ تحرص عائلات بأكملها على تقديم مساهمات مالية للمحافظة عليها وفي امكان شيوخ القبائل استقبال ضيوفهم فيها وايضاً زيارة الآخرين ولعل أهمية تلك الديوانيات اتضحت بجلاء في اثناء زيارة لولي العهد السعودي الأمير سلطان ابن عبد العزيز الى الكويت عام 2007 توقف خلالها في ديوانيات الشايع والمرزوق وعبد العزيز البابطين ومبارك الحساوي وأخريات. واللافت للنظر انه ليس من المعتاد ان يزور قادة الخليج مجالس شيوخ القبائل في البلدان الأخرى لأن العرف يقضي بأن يذهب الناس اليهم في مكان اقامتهم ولكن زيارات الأمير سلطان تلك سلطت الضوء على جانب من مظاهر قوة الديوانية في الكويت وطابعها المؤسسي الذي طالما رسخ أهميتها كما شكلت مجالسها تربة خصبة او حاضنة للأفكار والحركات السياسية وقضايا المجتمع المدني.
تنفرد الكويت والبحرين في منطقة الخليج بوجود برلمانات نشطة سياسية ففي 14 فبراير / شباط 2002 وضع دستور جديد في مملكة البحرين تضمنت مادته السابعة والعشرين ( حرية تكوين جمعيات ونقابات على أسس وطنية ) وبناءً على هذه المادة يوجد في البرلمان البحريني اليوم 14 تكتلاً او جمعية لا تسمى أو يشار إليها بأنها ( أحزاب ) لكنها في الواقع تضم احزاباً إسلامية شيعية وسنية وشيوعيين ولبراليين وقوميين عرباً وكتلاً مدعومة من الشركات البحرينية وتاريخياً كانت البحرين تتمتع بحرية في تشكيل الأحزاب السياسية قبل أي من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الأخرى الى ان تم حل البرلمان البحريني عام 1976 وفي الواقع عندما جرى الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس ( جبهة التحرير الوطني البحرينية ) ذات التوجه الماركسي اللينيني حضر وكيل وزارة ممثلاً عن الحكومة في تلك الاحتفالات وبناءً على سابقة البحرين يُمكن للمرء أن يفترض ان الحركات الاجتماعية وحركات المجتمع المدنية الحالية في الكويت وربما في بعض دول الخليج الأخرى ستتحول الى أحزاب سياسية بمجرد ان تقرها الحكومات.
التأسيس .. أغلبه حكومي
يشكل صعود الحركات الإسلامية في الخليج حالياً تشويشاً كبيراً لعمل جمعيات المجتمع المدني فمعظم الحكومات الخليجية ضاقت ذرعاً بحركات المجتمع المدني خشية ان تكون مرتبطة بعناصر خارجية او لها ميول إسلامية ولم يعد غريباً أن يسمع المرء انباء عن اعتقالات في بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لأفراد لا يكشف عن أسماءهم ولاحقاً قد يعفو عنهم الحاكم وعلى سبيل المثال في عام 2005 اعتقل في عُمان 31 استاذاً جامعياً وعالماً اسلامياً وحكم عليهم بالسجن لفترات تصل الى 20 سنة بتهمة ( تشكيل منظمة غير مشروعة وجمع الأموال وتجنيد الأعضاء ) وهذا يعني انهم بدأوا حركة مجتمع مدني وتدريجياً راح يظهر ان الاتهامات بالسعي الى اطاحة الحكومة غير صحيحة فصدر عفواً عنهم بالشهر التالي .
في معظم دول الخليج يجري تأسيس منظمات المجتمع المدني على يد الحكومات فقد أنشأت سلطة عمان فــــي أغسطس آب عـــــــام 2008 مؤسسة ( تواصل ) لتكون أول مؤسسة وطنية مستقلة مهنية غير ربحية في البلاد تعمل على المستوى المحلي وفق المعايير الدولية وتتمثل رسالتها في تمكين مؤسسات المجتمع المدني من خلال التدريب والمعرفة وقد اقامت اجتماعات عامة وإعلامية ولقاءات تعارف منتظمة الى ان ( تواصل ) شاركت في مناقشات في حقوق الانسان أيضا دعت اليها خبراء أوروبيين والعديد من مجموعات المجتمع المدني الأخرى في السلطنة بما في ذلك ( جمعية الصحافيين العمانية ) و ( جمعية الأطفال أولاً ) و ( جمعية المحامين العمانية ) وهو أمر غير مألوف بالنسبة لمنظمة غير حكومية مدعومة من الدولة .
ومن التطورات اللافتة للانتباه في البحرين الطبيعة العملية التي بدأت عليها الأحزاب المصدق عليها رسمياً في تأسيس ما يسمى ( حركات فرعية ) يديرها أعضاء شباب من الجمعية فعلى سبيل المثال ( جمعية الوفاق ) كبرى الجمعيات الدينية والسياسية في البحرين ويتبعها 17 عضواً من أصل 40 عضواً يضمهم المجلس المنتخب في البرلمان المكون في مجلسين ، أنشأت ( مركز البحرين الشبابي ) برئاسة حبيب مرزوق وفـــــــي مقابلة مع صحيفة ( ذا ناشونال ) سلط مرزوق الضوء على أهمية مواقع الشبكات الاجتماعية بما فــــــــي ذلك ( فيسبوك ) و ( تويتر ) لجذب الناخبين الشباب الى الحزب كما أسست ( جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي ) في البحرين ذات التوجه الماركسي والمعروفة بـ( المنبر ) ( جمعية الشبيبة ) برئاسة عيسى الدرازي لتعمل على جذب الناخبين الشباب .
ولعل من افضل الأمثلة الفعلية في البحرين على حركات المجتمع المدني الشعبية ( جمعية حوار البحرين ) أو ( حوار ) التي أسسها ويديرها سيد عدنان جلال البالغ من العمر 30 سنة وهي منظمة شبابية غير حكومية تروج الديمقراطية والحاجة الى الحوار وتهدف الى دعم الموضوعات التي تهم الشباب في البرلمان وتخفيض سن الانتخابات من 20 الى 19 سنة وقـــــد أسست الجمعية ( حوار ) ( نادي الديمقراطية ) الذي يجتذب الشباب من خلال عقد ورشات عمل ومسابقات تصوير ولكن أكثر ما يثير الاعجاب هو النصر الذي حققته ( حوار ) في العالم الافتراضي اذ استطاع مؤسسها ان يجتذب الى صفحتها 6000 مستخدم من اصل 150000 من مستخدمي فيسبوك في البحرين.
كما شهدت الكويت انتصاراً لحركة النشاط الاجتماعي عندما استطاعت رولا دشتي التي دافعت طويلاً عن المساواة بين الجنسين ودور المرأة وحقوقها في الحياة العامة بالاشتراك مع مجموعة من النساء الكويتيات الأخريات إحداث تحول كبير في السياسة الكويتية تمثل في حصول النساء على حق التصويت عام 2005 وبعد أربع سنوات أنتخب رولا وثلاث ناشطات كويتيات أخريات هُن اسيل العوضي وسلوى الجسار ومعصومة المبارك لعضوية البرلمان الكويتي لأول مرة في التاريخ ليقصين بذلك عدداً من أعضاء الأحزاب الإسلامية. ومع ذلك فقد تورطت الكويت في وقت سابق من هذا العام في قضية اثنين من ناشطين المجتمع المدني أحدهما خالد الفضالة الأمين العام لـ( التحالف الوطني الديمقراطي الليبرالي ) الذي حُكم عليه بالسجن 6 أشهر بسبب اتهامه رئيس الوزراء بغسل الأموال امام حشد جماهيري وذلك قبل أن تطلق محكمة الاستئناف سراحه.
وعلى الرغم من وجود مجتمع مدني نشط في الامارات العربية المتحدة فأنه يركز معظم جهوده على مساعدة الآخرين والمحافظة على البيئة وغيرها من الجهود التي ترعاها الحكومة ومن أمثلة ذلك ( منظمة القيادات العربية الشابة في دولة الامارات العربية المتحدة ) ( للأمانة العلمية علي أن اصرح بأنني شخصياً أشارك فيها ) و ( مجموعة عمل الامارات للبيئة ) وغيرهما. وقد اقامت ابوظبي حفلاً لتوزيع الجوائز على قادة المجتمع المدني الناشطين كُرم فيه قادة اماراتيون وخليجيون ووافدون اطلقوا مبادرات تقدم المساعدات الى المجتمع.
من أسباب القصور
سبق في قلت في مقالتين في صحيفتي ( ذا ناشيونال و ذا غارديان ) ان الفشل في تطوير مجتمع مدني في الامارات العربية المتحدة وقطر خارج نطاق المبادرات الخيرية على الرغم من استحقاق هذين البلدين الثناء في مجال حقوق الانسان والديمقراطية قد يعزى الى استمرار اندفاع المجتمع نحو الرأسمالية وقد أسهمت وسائل الاعلام الإماراتية والقطرية الى جانب البيئة التجارية القائمة المواتية في انتشار شعور باللامبالاة في صفوف الأجيال التي ولدت في حقبة ما بعد الاستقلال في السبعينيات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من اجراء انتخابات في الدولتين في قطر أولا عام 1999 لاختيار أعضاء المجلس البلدي ثم في الامارات العربية المتحدة عام 2006 لانتخاب المجلس الوطني الاتحادي فقد كان المجلسان المنتخبان عاجزين الى حد كبير عن الشروع في الإصلاح ولا ينظر افراد المجتمع اليهما على انهما مؤسستان قويتان. وكانت قطر اول دولة في الخليج تُعطي المرأة حق التصويت عام 1999 على الرغم من عدم انتخاب أي من المرشحات الست فيها. وقد أعربت موزة المالكي وهي طبيبة نفسية وكاتبة واستاذة جامعية كانت من المرشحات عن خيبة املها من نتائج الانتخابات ولكنها لاتزال تواصل دعوتها الى منح المرأة حقوقها. ووفق لشبكة ( إيه بي سي ) الإخبارية فقد كانت موزة أيضاً من أوائل النساء في قطر اللواتي قُدن السيارة بأنفسهن وخلعن العباية. كما يقال إنها طلبت من طالباتها عدم تغطية وجوههن في صفها وفي السعودية يوجد عدد كبير من الجمعيات المدنية في جدة التي يعتبر مجتمعها اكثر انفتاحاً وسماحاً من مجتمع العاصمة الرياض بينما عمدت مجموعات أخرى مثل ( الجمعية السعودية للحوار ) و ( جمعية الرقي ) ( RAISE ) الى استخدام موقع فيسبوك للتواصل ومن اشهر ناشطي المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية وجيهة الحويدر. وهي عضو مؤسس لـ( جمعية الدفاع عن حقوق المرأة في السعودية ) وقد تعرض ناشطون أخرون من العلمانيين والمتدينين على حد سواء للاعتقال او صدرت ضدهم احكام بالسجن وارغموا على توقيع بيان يوافقون فيه على وقف جميع اشكال النشاط قبل ان يطلق سراحهم ونظراً الى ان عدداً كبيراً من قادة حركات المجتمع المدني يعينون من قبل الحكومات في منطقة الخليج فلا يمكن تصنيف هذه الحركات على انها حركات شعبية.
لا يزال المشوار طويلاً امام دول الخليج للوصول الى مجتمعات مدنية متطورة فحتى في الكويت صاحبة المجتمع الأقرب الى الديمقراطية بين دول الخليج لاتزال هناك قيود على المجتمع المدني وحدوده كما أظهرت قضية خالد الفضالة مؤخراً. ولن تنشأ حركة مجتمع مدني حقيقية الى عندما توجد صحافة حرة فعلاً ومن ناحية أخرى فإن النشاط المدني المستقل يحتاج الى قبوله من المجتمع ايضاً في الخليج قبل ان تعترف به الحكومة رسمياً.
ربما يمكن لدول الخليج الاستفادة من تجارب بعضها بعضاً بدلاً من تطبيق نموذج غربي والشيء الوحيد المؤكد هو انه على زعماء دول الخليج اما تبني عملية اصلاح بطيئة تحت السيطرة واما المخاطرة بحدوث صعود مفاجئ لأحد النجوم المحبوبين من بين الناشطين في مؤسسات المجتمع المدني.